مدخل:
كانت الأمة قد عاشت فترة من الشدة والصرامة في عهد ما كان يصلح فيه إلا ذلك، فاشتاقت بطبيعتها البشرية إلى اللين والثراء والاستثمار، فجاء دور عثمان (رض)، الذي عرف بالحياء الشديد، والثراء ونجدته للملهوفين فكان رجل الوضع الجديد الذي أخذ الإسلام يملأ فيه العالم.
استطاع عمر (رض) أن يقترح على الصحابة طريق اختيار من يخلفه دون أن يعين فردا، فظل اهتمام عمر بن الخطاب بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وذلك عن طريق الشورى، حيث حصر ستة من الصحابة كلهم يصلحون لتولي الأمر وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، ويحضر معهم عبد الله بن عمر مشيرا فقط، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي رضي الله عنهم، وقد حدد الفترة بثلاثة أيام بعد دفنه.
أ- خلافة عثمان نجدة في ساعة عسرة
جاء الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) ليجسد ضمان حفظ القرآن الذي نص عليه العليم الخبير، فكان أجلا ينتظر الكتاب، ووعدا يترقب منجزه فكانت التوطئة مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لحفظ الكتاب من الضياع، ثم جاء عثمان في ساعة العسرة بعد أن كاد القرآن يتعرض للتحريف، فجاءت النجدة متمثلة في المصحف العثماني على غرار تجهيز جيش العسرة في وقت العسرة، فبرهن عمله هذا ما سبق أن قاله عنه الصادق المصدوق(ص) : « ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» فكان بهذا الإنجاز الخالد العملاق الذي صان للأمة كتابها وللدين نقاوته ببصمات راسخة، قد حقق للأمة في خلافته مالم تنله أمة من قبل في كتابها المنزل، فقد حرفت الأمم الأخرى كتبها وبقى القرآن محفوظا مصونا بهذا المصحف العثماني.
تمت في خلافة عثمان بعد إرساله نسخا إلى الأمصار، صيانة الأمة من الاختلاف في مصدرها الأم، فكان بذلك ضمانا لحفظ القرآن، وقد أبى إلا أن يلازم هذا المصحف إلى آخر نفساته.
أتت خلافة عثمان، بعد فترة الصرامة لمواجهة كل مارد، عن طريق (الذي يهابه الشيطان) لتصل القيادة إلى عهد اللين لمن عرف بالحياء الشديد، فكان الرسول(ص) يقول: (إِنَّ عُثْمَانَ حَيِيٌّ سَتِيرٌ، تَسْتَحْييِ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) وبهذه المواصفات فهو الرجل المناسب للوضع الجديد، فأصبحت منابر الإدلاء بالرأي منتشرة مما يترجم حيوية المرحلة التي كانت بحاجة إلى الحِلْمِ والابتكار في فن الإشراف على المجتمعات المتباينة، إذ إن المد الإسلامي كان قد أخذ طريقه إلى العالمية كمًا ونوعًا فاقتضت الحكمة الإلهية أن تختار للأمة من يمسك بزمام أمرها طبق مقتضيات الوضع الجديد، فمتقلبات الزمان والمكان تتطلب تنوعا في إطار وحدة مع بقاء الثوابت.
كان عثمان ميسور الحال الأمر الذي كان المجتمع يشتاق إليه على مستوى رأس القيادة ليفتح أمام أصحاب الأحلام والتطلعات أبواب الثراء ، مما ينعش الأوضاع الاقتصادية التي كان سلفه قد شق طريقها وخطط لها، فكانت التجربة الجديدة بمثابة محتوى يصب في وعاء نبوي، فكان الرسول(ص) قد أَثْنَى على عثمان لاستخدامه ثروته في تجهيز جيش العسرة، فاتضح أن الثراء الذي يرافقه الإنفاق في محله، يمثل سلاحا لمكافحة معضلات المجتمع، والحيلولة دون انهيارها، فتبين من نموذج عثمان أن الإسلام ليس تقشفا ولا استسلاما تلقائيا لأمر الواقع بل إنه سعي ومكابدة وإنجاز، كما أنه ليس ترفا ولا بذلا بدون علة مقبولة. جاءت خلافة عثمان لإحداث التوازن بين كفتي الترف والتقشف، فتجربته طرحا بديلا لأنظمة عرفها العالم منذ القدم حيث دارت بين الإفراط والتفريط في التقشف والتبذير، كالرأسمالية والاشتراكية، فموقف عثمان في المجال الاقتصادي شجرة زيتونية لا شرقية ولا غربية، فكان ينفق في موضع الإنفاق وحسبنا تمثيلا: “بئر رومة” التي اشتراها وجعلها وقفا للمسلين.
(ب-الفتوحات في عهد عثمان(رض
لم تتوقف مسيرة قوافل الفتوحات التي شهدتها فترة ما قبل عثمان، سيما أنه رجل أعمال وشاهد عيان فجمع بين الخبرات السابقة والممارسة الفعلية، ليدفع عجلة التاريخ في توسعة رقعة الإسلام التي لم تبرح تتسع منذ بدايته فاتجهت جيوش الفاتحين التي تتطلعها الشعوب المختلفة طمعا في نيل نصيبها من عصارة المد الإسلامي الحضاري، الذي ترنو إليه الجبلة البشرية وتشتاق له الفطرة، ولا يعترض عليه إلا الطغاة ، فتأتي قوة الإيمان وحب الاستشهاد، دافعا نحو المناطق المترامية لمواجهة الجبابرة فيها لتخليص الشعوب المضطهدة من معاناتهم، فبعث عثمان الجيوش مع تزويدها بكل اللوازم المادية والمعنوية لنصرة الحق.
مما ميز خلافة عثمان عن سابقتها، كونه رجل أعمال ثري مما وسع آفاق الطموحات، ثم جاء حلمه ليفسح مجال حرية النقد البناء مما يبرز القدرات الكامنة التي كانت مكبوحة، فانفتح بها الإسلام نحو الفرس والهنود بعقولهم الحاذقة والروم بأياديهم المبدعة، فاستطاعت أن تصل إلى أقصى الشرق فشملت ما تبقى من بلاد فارس ووصلت إلى الهند والصين كما تقدمت إلى الشمال الشرقي نحو أرمينيا وأذربيجان وجورجيا والغرب بعد مصر إلى أعماق أفريقيا وضفاف البحر الأبيض المتوسط، كما أنشأ الخليفة عثمان (رض) أسطولا بحريا لتأمين الشواطئ الإسلامية، فسجل انتصارات قوت شوكة المسلمين.
(ج- محاباة الأقرباء في خلافة عثمان(رض
إذا كان أبو بكر وعمر اعترضهما توقف الساعة عند سقيفة بني ساعدة التي ظلت مخيمة عليها لإثارة الشبهات، فإن الخليفة عثمان لم يكن من بين من حضروا الاجتماع أو يشتبه فيهم في تلك الحادثة، إلا أن المناوئين لعثمان استرجعوا نفيات التاريخ الجاهلي، فأوقفوا عقارب ساعاتهم عند التنافس الذي كان دائرا بين بني أمية وبني هاشم، لكونهم أبناء أعمام، ليصبح حجر عثرة لخلافة عثمان(رض).
ما كاد عثمان يتولى الخلافة حتى أوخذ عليه قرابته من عبد الرحمن بن عوف الذي هو من بني أمية وأن ذلك ما جعله يفضله، على علي بعد أن تأرجح الاختيار بينه وبين عثمان، ومهما يكن من أمر فقد كانت الشورى جلية وواضحة على مستوى الخاصة والعامة فيما قام به عبد الرحمن بن عوف(رض)، فكانت بداية الانتقاد للخلافة من المناوئين الذين يثيرون التنافس الجاهلي بين بني أمية وبني هاشم، ثم تلى ذلك تولي ذوي عثمان من أقربائه، مناصب في الحكم، رغم أن عثمان رضي الله عنه لم يخرج عن ما كان عليه أسلافه من مشاورة أولي النهى والأخذ بآرائهم في مختلف المسائل، فاعتبر عثمان أن أقاربه جزء من الأمة تولوا مسؤوليات في عهد الرسول(ص) وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن مأخذ القرابة بات يطارده.
كان عثمان يرى أن معيار اختياره فيمن تتوسم فيه الكفاءة الإدارية أو العسكرية من ذويه أو غيرهم، فعهده شهد فتوحات واسعة، مما استوجب تسخير جميع الطاقات.
ثم إن المعضلة الأساسية كانت تدور حول الخلاف الماثل بين نظام الوراثة، ونظام الانتخاب وبما أن الشورى، قائم على الاختيار الحر للقيادة، فإن من مناقصه حساسيات تقريب الأقارب بأية حجة كانت، فجاءت خلافة عثمان درسا للأمة فيما قد تلاقيه في مسيرتها القيادية في إطار النظام الشوري، سيما أن الرسول(ص) وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يقعا في تعيين الأقارب، فكان نازلة يحتاج من يتعامل معها بقدر من الحلم لتحمل التداعيات، والحكمة لحسن التدبير والتطبيق.
أخذ النظام الإسلامي العالمي بتجاربه الواسعة يلاقي منذ فجره ممارسات شائكة فنال منها عثمان محنا كثيرة، فعاملها بحكمة وعالجها بعزيمة، فمسألة تقريب الأهل كانت مطبة عويصة إلا أنه واجهها على أساس من الوسطية، فعدد الأقارب الذين ولاهم مناصب كان قليلا من كثير، ثم إن القرابة لم تكن حصنا دون عزلهم أو إلحاق عقوبة بهم، فالإنصاف ومراعاة مواصفات الأهلية، والعمل بما خلفه له سابقوه ساعده على اجتياز المآخذ.
إلا أن الانتقادات ما كانت تترك موقفا أو تصرفا أو اجتهادا من الخليفة عثمان إلا استغلته، بدء من الصلاة وصعود المنبر، إلى الحج وصلاة الظهرين في عرفات، لتعتبر اجهادات الخليفة خروجا عما كان عليه أسلافه.
ثم قامت الحركة السبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ الذي يقال إنه يهودي اعتنق الإسلام وعمل على نشر الغلو والتمرد والحقد والكراهية.
ويمكن إرجاع هذا الصراع (الفتنة) إلى سلوكيات اتهم بها عثمان (رض)، مثلت الشرارة التي انطلقت منها نار الفتنة التي أدت إلى استشهاده، وهي ذات شقين، سياسية واقتصادية، إلى جانب إثارة حزازات عقائدية، وأخيرا انفلات الوضع.
: أولا- العامل السياسي
استاء المناوئون لخلافة عثمان عزله بعض العمال القدامى من أيام عمر بن الخطاب، وتولية آخرين، وكانت التعليقات تصب في وصفها لعثمان بعبارة «بدلت وغيرت» فاتهمه بعض بأنه لم يقتد بأبي بكر وعمر في سياستهما التقشفية، كما اتهم بمحابة أقاربه من بني أمية وتعاطفه معهم.
وبخصوص حركة عبد الله بن سبأ المناوئة لخلافة عثمان، فعبد الله بن سبأ على المشهور، يهودي من أهل اليمن تظاهر باعتناق الإسلام، وكان يجوب في الأمصار ويطعن في عثمان وولاته، وقد ظهرت بدايته في البصرة، على أن عَلِيّاً أحق الناس بالخلافة، وأن عثمان اغتصبها منه، فنفاه والي البصرة إلى الشام، فاستمر في دعوته حتى طرده معاوية، فاتجه إلى مصر وواصل دعوته لخلع عثمان ناشرا الحقد والكراهية ومحرضا على إشعال نار الفتنة، بذريعة رد الحق إلى صاحبه، ويقال إن حركته استمالت جماهير غفيرة.
: ثانيا-العامل الاقتصادي
حرص عمر بن الخطاب (رض) على أن يلتزم العرب الخشونة والزهد والتقشف خشية خوضهم في حياة الترف التي كانت سائدة في المدن المفتوحة لبلاد العجم، بمنع الصحابة من امتلاك الضياع خارج الحجاز، ولكن عثمان (رض) فتح لهم باب الخروج إلى البلدان المجاورة والأمصار المفتوحة، فامتلكوا الضياع وشيدوا القصور، وظهرت بالتالي طبقة ميسرة (أرستقراطية دينية) تمتاز بالسبق إلى الإسلام، وصحبة الرسول (ص)، فظهرت أنيقة في ملبسها ناعمة في مأكلها، في حين أن هناك طبقة فقيرة محرومة من المحاربين استقرت في الأمصار.
ثالثا- إثارة الحزازات العقائدية
ومن شرارات هذا الصراع (الفتنة) روايات تتحدث عن الكيفية التي كان يخطب بها الخلفاء الثلاثة، فالصحابة رضي الله عنهم أعطوا لمنبر النبي (ص) فضله ومكانته كرمز، وكان النبي (ص) يجلس على أعلى المنبر ويضع قدميه على الدرجة الثانية، فلما ولي الصديق (رض) الخلافة، قام في خطبته على درجة المنبر الثانية ووضع قدميه على الدرجة السفلى، ثم لما ولي عمر (رض) قام في خطبته على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض، أما عثمان (رض) فقد قام على الدرجة السفلي ست سنين ثم رقى إلى حيث رقى الرسول (ص) في النصف الثاني من فترة خلافته.
أثار هذا التنوع في الأداء أصحاب التنطع والتشدد، على أنه قد تغير وتبديل في منتصف خلافة عثمان، ومن ثم قسموا خلافته إلى قسمين: قسم التزم فيه، ما وعد به عبد الرحمن بن عوف، بالسير على خطى الخليفتين الصديق والفاروق، وقسم آخر عمل فيه بمقولة عليّ(رض): «أعمل بمبلغ علمي وطاقتي» التي أجاب بها عبد الرحمن بن عوف، مما أفقده الخلافة.
كما كان تتميمه الظهر والعصر بعرفات التي تؤدى فيها هذه الصلوات جمعا وقصرا، قد أحدث ضجة أخرى ومعارضة كبرى، وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم كيف حول منشأ الصراع إلى مسائل شرعية، وحساسيات دينية، مما انتهى باستشهاده.
أخيرا انفلات الوضع
جاء المتظاهرون (الثوار) من المناطق التي فتحها الإسلام من مصر والشام والعراق بمطالب مختلف تتعلق باستيائهم من تصرفات بعض الحكام واحتجاجهم نقل بعضهم، وكان الحوار مفتوحا وعلي(رض) ينقل من وإلى الخليفة عثمان(رض) النقاط المطروحة والنصائح التي يراها، وتمت محاصرة بيت الخليفة فبعث علي(رض) بالسبطين الحسن والحسين رضي الله عنهما لحراسة الخليفة عثمان إلا أن مجموعة تسللت من الخلف لتصل إلى عثمان فاستشهد وهو يتلوا القرآن الكريم.
قتل عثمان مظلوما وهو من جمع القرآن وحصنه للأمة، وتوسعت رقعة الإسلام وتقويت شوكته، بأسطوله البحري وجنده البري ومدنه المترامية الأطراف، وهو كذلك من قام في خلافته بنقلة اقتصادية إلى جانب انتشار حرية الرأي في المجتمع خلال المنابر، وكان من تداعياتها المظاهرات التي انتهت بالتمرد والاغتيال السياسي.
كان عثمان (رض) ثاني من هاجر في سبيل الله- بعد نبي الله لوط عليه السلام- مع زوجته إلى الحبشة، ثم إنه صهر رسول(ص) في بنتيه رقية وأم كلثوم وبذلك لقب بذي النورين، وهو مجهز جيش العسرة كما أنه ترك بصماته الخالدة ليكون من رسخ أولى تركتي الرسول(ص) كتاب الله المعجزة الخالدة.
بقي السؤال عما آل إليه الأمر بعد مقتل عثمان مظلوما، ومبايعة علي (رض) وهو مضطر، سيما أن هناك من لم يبايع الخليفة عليا (رض) تحت ذريعة المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان؟ فبعد ما اختلطت الأوراق وتفرقت النعرات أين المخرج من الأزمة المزمنة؟
سيدي الأمين نياس رئيس مؤسسة والفجر الإعلامية دكار سنغال
تتابع… الجمعة القادمة تحت عنوان: الخلفية الرابع الساهر على الثغور