جاءت خلافة عمر(رض) في وقت الاستقرار والأمن وفي عهد ازدهرت فيه الأمة، وكان احتمال التهديد في الداخل من خلال المتلاعبين بالأحكام والمثيرين للشبهات، فاحتاج الوضع الجديد إلى الحيطة والحذر.
عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشدة والإنصاف في الحكم لذلك لقب بالفاروق، فهو من يخافه المارد كما وصفه الرسول (ص) بأن الشيطان يرهبه ولا يسلك الدرب الذي يسير فيه، فجاء سيماه في وجهه كزرع أخرج شطأه فاستغلظ فاستوى على سوقه.
(أ- مؤهلات قيادية في شخصية عمر ( رض
تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنهما ، بترشيح من الأخير، ونال الأمر إجماع المسلمين، ونجد في الخلافة العمرية من باب الاستئناس باللطائف نصا من حديث نبوي شريف عنوانا للحالة الراهنة: (الذي يهابه الشيطان) حيث يقول الرسول(ص) لعمر: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ )، فكان عمر بنص صريح في مواصفاته، الرجل المناسب في المكان المناسب ، حيث أخذت الأمم تدخل في دين الله أفواجا، فتطلب الظرف أخذ الكتاب بقوة، حتى لا يلين الإسلام فيستغل نتيجة عاطفة مجردة أو وجدانيات مبالغ فيها، سيما أن المفاهيم والتوجهات الوافدة تمثل تحديا جديدا لتكييفها في إطار النظام والانضباط، حسب تعاليم الكتاب والسنة بلا إفراط ولا تفريط .
امتاز عمر÷ بالصرامة التي استطاع من خلالها بسط سيطرته على الناس والبلدان المختلفة، فقد كان ذا هيبة جعلت الجميع يوقرونه، فعرف بالفاروق، لعدالته وحرصه على أن يحصل كل ذي حق على حقه مهما كان وضعه.
(ب- طور المنهجية والتنسيق في خلافة عمر(رض
كان التحدي الجديد أمام عمر÷ في وضع المنهج لتنسيق قضايا الأمة في عهد بدأت رقعة الإسلام تتسع، والميادين الحيوية تتعدد، ثم إن الإسلام خرج من مرحلة بدائية إلى طور الحضر، فاحتاج إلى هيكلية، فبدأ عمر بإنشاء الدواوين، وهي منظومة إدارية لتسيير الأمور، فوضع نظاما ماليا أو بيت المال، لجمع الموارد وتوزيعها، فأقام مجموعة من الدواوين في اختصاصات متباينة، فجعل ديوانا للجند يتولى ما يلزم ، من صرف رواتب وبدائل في ذلك الهيكل الحيوي ، فخرجت حماية الدين من عمل تطوعي نحو جيش نظامي متفرغ لإحلال الأمن والسلام والاستقرار.
كما أقام الخليفة عمر(رض) نظاما للقضاء، فعين القضاة، ومنحهم رواتب، مع استقلالية، فأنشأ محاكم مختلفة.
واتسعت الفتوحات لتشمل الشام والعراق، ومصر وبلاد فارس، ودخل عمر ÷ بيت المقدس فاتحا بلا سلاح، كما أنشأ مدنا جديدة، كالكوفة والبصرة بالعراق، والفسطاط والجيزة بمصر.
اهتم الخليفة عمر بالزراعة وإصلاح الأراضي وأقام عددا من السدود والقناطر، واستطاع شق فروع عديدة للأنهار وتمهيد الطرق، تسهيلا للاتصال بين المدن والقرى، مما هيأ إنعاش الزراعة والصناعة، كما أنشأ ديوان الخراج المكلف بأصحاب الأراضي، وديوان العطاء القائم بصرف الأموال والمؤن على المحتاجين.
كما قام الخليفة عمر÷ بإنشاء التقويم الهجري، وذلك بعد عقد مجلس الشورى مع الصحابة ومناقشتهم في مسألة تحديد تاريخ معين لتجنب حدوث أخطاء في العقود والمعاملات المختلفة، وجعل بداية التاريخ من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان وضع التاريخ الهجري توفيقا آخر لعمر، وعنوانا جليا لصراع حضاري، قائم على مرجعية التاريخ، من خلال المدينة الرمز(دار الهجرة) والتشريع الأساس في البنية القانونية، والممارسات المراسيمية لهيكلية تتميز بها الحضارات بعضها عن بعض، فكان التاريخ الهجري رمز هوية وعنوان حضارة ينطلق من المدينة المنورة، كما هو الحال في مدنيات أخرى ذات طابع مختلف في شكلها ومضمونها حسب اختلاف الرسالة التي تحملها.
فالهجرة النبوية ليست مجرد تاريخ عابر، ولا قصة روائية فحسب، أو مرحلة مأساوية تثار بل منطلق حضارة إنسانية بأبعادها وآفاقها الواسعة.
وترتكز أهمية التاريخ الهجري على ارتباطه بالمسائل الفقهية والتشريعية والمواسم والمناسبات، والأخذ بعين الاعتبار التوقيت الزمني لتحديد بداية اليوم وفق الساعة فجرا، كذلك منطلق التاريخ والحضارة المتمثل في نموذج الهجرة إلى المدينة النبوية المنورة.
ج- الدور الريادي لأهل الحل والعقد في رفع التحديات
كانت تحديات الخلافة ماثلة منذ سقيفة بني ساعدة ، والتي ظلت شبحا مخيما ومصيدة تجمع له الروايات والقصص، فاعتبر المعارضون لخلافة عمر، أنها مبنية على اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم، للتناوب في الحكم، وأن عمرا أخذ دوره، ثم إن أبا عبيدة، لو عُمِّرَ لكان الدور له، وأن الأحقية لعلي (رض) بوازع الولاية والاصفاء والقرابة والمناقب، إلا أن عمرا سار على خطى أبي بكر الصديق، بجمع الصف ومشاورة الصحابة في المسائل، والأخذ بآرائهم في الأحكام والمستجدات والعمل عن علم ودراية، فكان عمر يصغي إلى علي رضي الله عنهما في المسائل آخذا بمشورته، فما ترك فجوة يستغلها من يترقب مع كون الدسائس قائمة.
أضاف عمر إلى سد الفجوات، صرامته وعدله وذكاءه، مما جعل أصحاب المكائد يتوجسون خيفة، والشياطين يرتعدون، فكانت المشورة مع أولي النهى مسندا آخر يحمي للدين صفه وصفاءه، كما كان التنسيق والمنهجية والإنارة العلمية منهلا فياضا ، من عطاء نبوي متصل برجاله الصفوة، فتعددت المشاريع، وأصدرت القرارات النافذة، ونشطت روح الإبداع وتسابقت الأمم بنخبها وافدة بعقولها وخبراتها، وكان عمر الفاروق(رض)، يمتاز بالعدل فوضع الميزان في كل صغيرة وكبيرة دونما إهمال أي تفصيل إذ الشيطان دأب أن يتسلل عبر الثقوب، فأصبح الحوار الهادف والحجة المفحمة هي المعتمدة، فكان المجال والميدان لأهل الحل والعقد في رسم المبادئ الأساسية في المعاملات، كما أن العدل أرضية تفتح الباب لأهل الجد وأصحاب المشاريع المجدية للاستثمار في مختلف المجالات، فانتشر الهدوء والاستقرار، فالقاعدة المعمولة بها مبنية على المشورة من أولي النهى بحيث يكون ما يتولد منها ثابتا بجذوره العلمية وأصوله العقدية.
د- العدالة والقرب من الرعية
كان حرص الخليفة عمر على العدالة الوازع الذي دفعه إلى الاكثار من تفقد أحوال الرعية، بكل دقائقها وتفاصيلها، فكان يسهر الليالي للوقوف على أحوال المجتمع والملهوفين، مما ساعده على إصدار الأوامر لتظليل المشاكل التي تخفى على القائد المتقوقع في عرشه، مما يؤدي إلى مفاجآت لدى الحاكم، كما كان يستغل مواسم الحج لفتح المجال أمام الحجاج والزائرين لسرد مشاكلهم والمظالم التي قد يتعرضون لها من الولاة من مختلف المناطق، مما يبرز النموذج الإسلامي في الحكم والتعامل مع العامة في المجال الاجتماعي والإداري.
وكان عمر قد لخص سوء المعاملة المبني على الاستعلاء والطبقية من طرف الحكام في عبارته الشهيرة:” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”
كما كان يوبخ من يركن إلى الاتكالية، ويعطل السعي والكسب بدعوى التدين، فينتشر التكفف الناجم من الخمول، وهذا الموقف الجاد لعمر نشط روح الإنتاج والاعتماد على النفس، فكان ذلك سدا لباب التطفل للذين يصطادون في الماء العكر، وخير شاهد على ذلك عبارته الشهيرة: ” لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة “.
أخذ النموذج الإسلامي في خلافة عمر يجذب انتباه الأمم والشعوب التي باتت تنتظر موعدها مع الدعوة مما سهل الفتوحات في الأراضي المتاخمة للمد الإسلامي، وكان صداها في تلك المناطق توطئة لانتشار الملة السمحاء فيها، مما يمكن اعتباره دعوة بالقدوة، ففتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس بلا سلاح ونشر فيه التسامح والتعايش السلمي بين مختلف الديانات مع حرية ممارسة الشعائر كل حسب معتقده، فشاع بذلك مدى احترام الإسلام للديانات الأخرى مالم تعتد عليه.
كما كان في تعمير المناطق التي تم فتحها على يد عمر ما يدل على أن الإسلام تعمير وليس استعمارا وبناء وليس هدما، مما جعل البقاع الأخرى تتطلع يوم فتحها، فزرع ذلك في قلوب الجبابرة حالة من الرعب والتوجس، مما أدى إلى التأهب لسد عدوانها، حتى لا يبقى الإسلام عرضة للاعتداء المباغت.
فبعد فتح العراق تواصل المد الإسلامي على يد عمر حتى بلاد الفرس والتي كانت قوة عملاقة بجيوشها وفرسانها وفيلتها التي من بينها الفيل الأبيض، فواجهت قوة الإيمان، وحكمة التدبير للخليفة الذي كان يقود الجيوش بنفسه من المدينة المنورة مع أدق التفاصيل وأحسن التوجيه وكان يتابع التطورات والطوارئ، كما يزود الجند بالإيمان والإخلاص،
ولمَّا بلغ كتاب النصر الخليفة عُمر بِالمدينة المُنوَّرة، وفيه تفاصيل ما جرى، جمع الناس فبشَّرهم بِالفتح الذي عرف بفتح الفتوح، حيث لم يبق من بلاد فارس بقعة إلا وقد فتحت، فخطب فيهم عمر (رض)، وأمر بِفتح الكتاب فقُرئ على الناس، وقال في خطبته: «أَلَا وَإِنَّ اللهَ قد أَهلَكَ مَلِكَ المَجُوسِيَّةِ، وَفَرَّقَ شَملَهُم فَلَم يعُودوا يَملِكُونَ مِن بِلَادِهِم شِبرًا يَضير بمُسلِم. أَلَا وَإِنَّ اللهَ قد أَورَثَكُم أَرضَهُم وَدِيَارَهُم وَأَموَالَهُم وَأَبنَاءَهُم لِيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُون، فَقُومُوا فِي أَمرِهِ عَلَى وَجَلٍ، يُوفِ لَكُم بِعَهدِهِ وَيُؤتِكُم وَعدَهُ وَلَا تُغَيِرُوا فيَستَبدِلَ قَومًا غَيرَكُمُ، فَإني لَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أن تُؤتَى إِلَّا مِن قِبَلِكُم».
كانت تجربة الإسلام في فتح بلاد فارس مخالفة لغيرها حيث إن مصر وبلاد الشام والعراق، تعربت جراء دخولها في الإسلام أما فارس فقد حافظت على قوميتها مع تعريب حروف الهجاء، كما أنها أثرت في اللغة العربية فكرا وشعرا وأدبا عن طريق التلاقح الثقافي، كما كانت بداية الشعوبية بين العرب والعجم، فاستطاع النموذج أن ينمو مع الأتراك لينتشر نحو أمم وشعوب أخرى.
من ناحية أخرى واجه عمر حالات الشدة في أعوام المجاعة والقحط فاستعان بالتقشف والتضرع فبدأ بنفسه، ومن حوله من المسؤولين ثم الأثرياء، حتى لا يكون المتوفر من الرخاء دولة بين الأغنياء، كما جعل المحنة وسيلة لتقوية الإيمان بالتضرع إلى الله فخرج مع عم النبي (ص) العباس(رض) لصلاة الاستقاء، فاستجيبت دعوتهم، كما استنجد بالأقطار الإسلامية التي هي أحسن منهم حالا، على أساس من التعاون في وقت الشدة، فقدمت القوافل ساعتها من الأمصار النائية نجدة، فتم صرف المؤون إلى المحتاجين.
ومكث عمر في الخلافة عشر سنوات فاستشهد على يد مجرم محتال أبي لؤلؤة المجوسي ويقال له: فيروز النها وندي، فوقع من يهابه الشيطان فريسة انتقام من عدوه المارد الذي طعنه من الخلف، عودة إلى ذي بدئ في الصراع مع الشيطان.
فوقفت الأمة يتيمة أمام تحديات أخرى على مقدمتها القيادة وضبط الاستقرار والأمن العام والمحافظة على الإنجازات.
مثّلت خلافة عمر رضي الله عنه نموذجا في الأمن والاستقرار بين فترات التّاريخ الإسلامي حيث تميزت بالعدالة، وتتابع الفتوحات فقد وصلت في عهده إلى خراسان شرقاً، وإلى ليبيا غرباً فرفعت راية الدّين وزادت هيبة المسلمين، فتمكن الخليفة الثاني من ترسيخ دعائم الدولة الإسلامية التي أخذت رقعتها في الاتساع وشعوبها في الازدياد بحكمة قيادها المبنية على الإنصاف والشفافية والصرامة، فصارت مضرب مثل ونموذجا للإنسانية. فبقي التساؤل عما سيأول إليه الأمر مع ظهور عنصر الاغتيال السياسي في رأس القيادة؟
سيدي الأمين نياس رئيس مؤسسة والفجر الإعلامية دكار سنغال
يتابع … الجمعة القادمة تحت عنوان: الخليفة الثالث بين خلفيات الماضي ومطالب المستقبل